فارق أبو الطيب سيف الدولة وهو غير كاره له، وإنما كره الجو الذي ملأه حساده ومنافسوه من حاشية الأمير. فأوغروا قلب الأمير، فجعل الشاعر يحس بأن هوة بينه وبين صديقة يملؤها الحسد والكيد، وجعله يشعر بأنه لو أقام هنا فلربما تعرض للموت أو تعرضت كبرياؤه للضيم. فغادر حلب، وهو يكن لأميرها الحب، لذا كان قد عاتبه وبقي يذكره بالعتاب، ولم يقف منه موقف الساخط المعادي، وبقيت الصلة بينهما بالرسائل التي تبادلاها حين عاد أبو الطيب إلى الكوفة وبعد ترحاله في بلاد عديده بقي سيف الدولة في خاطر ووجدان المتنبي.
وارسل له اخر رسائله الشعرية وهي تعد عتابا فقال له.
بيني وبينك ألف واش ينعب فعلام أسهب في الغناء وأطنب
صوتي يضيع ولا تحس برجعه ولقد عهدتك حين أنشد تطرب
وأراك ما بين الجموع فلا أرى تلك البشاشة في الملامح تعشب
وتمر عينك بي وتهرع مثلما عبر الغريب مروعاً يتوثب
بيني وبينك ألف واش يكذب وتظل تسمعه.. ولست تكذب
خدعوا فأعجبك الخداع ولم تكن من قبل بالزيف المعطر تعجب
سبحان من جعل القلوب خزائنا لمشاعر لما تزل تتقلب
قل للوشاة أتيت أرفع رايتي البيضاء فاسعوا في أديمي واضربوا
هذي المعارك لست أحسن خوضها من ذا يحارب والغريم الثعلب
ومن المناضل والسلاح دسيسة ومن المكافح والعدو العقرب
تأبى الرجولة أن تدنس سيفها قد يغلب المقدام ساعة يغلب
في الفجر تحتضن القفار رواحلي والحر حين يرى الملالة يهرب
والقفر أكرم لا يغيض عطاؤه حينا ويصغي للوشاة فينضب
والقفر أصدق من خليل وده متغير.. متلون.. متذبذب
سأصب في سمع الرياح قصائدي لا أرتجي غنماً... ولا أتكسب
وأصوغ في شفة السراب ملاحمي إن السراب مع الكرامة يشرب
أزف الفراق... فهل أودع صامتاً أم أنت مصغ للعتاب فأعتب
هيهات ما أحيا العتاب مودة تغتال... أو صد الصدود تقرب
يا سيدي ! في القلب جرح مثقل بالحب... يلمسه الحنين فيسكب
يا سيدي ! والظلم غير محبب أما وقد أرضاك فهو محبب
ستقال فيك قصائد مأجورة فالمادحون الجائعون تأهبوا
دعوى الوداد تجول فوق شفاههم أما القلوب فجال فيها أشعب
لا يستوي قلم يباع ويشترى ويراعة بدم المحاجر تكتب
أنا شاعر الدنيا... تبطن ظهرها شعري... يشرق عبرها ويغرب
أنا شاعر الأفلاك كل كليمة مني... على شفق الخلود تلهب