حدّث الاصمعي قال:
دخلت البصرة أريد بادية بني سعد، وكان على البصرة يومئذ خالد بن عبدالله القسري، فدخلت عليه يوما فوجدت قوماً متعلقين بشاب ذي جمال وكمال وأدب، حسن الصورة طيب الرائحة جميل البزّة، عليه سكينة ووقار.. فقدموه الى خالد، فسألهم عن قصته فقالوا: هذا لص اصبناه البارحة في منزلنا، فنظر اليه خالد فاعجبه حسن هيئته ونظافته. فقال: خلّوا عنه، ثم ادناه منه وسأله عن قصته فقال: ان القول ما قالوه، والامر على ما ذكروه.. فقال خالد: ماحملك على ذلك وانت في هيئة جميلة وصورة حسنة؟ قال: حملني الشره في الدنيا، وبذا قضى الله سبحانه وتعالى. فقال خالد: ثكلتك أمك، اما كان في جمال وجهك، وكمال عقلك وحسن أدبك زاجر لك من السرقة؟.
قال: دع عنك هذا ايها الأمير، وانفذ ما أمرك الله به.. فذلك ماكسبت يداي، وما الله بظلام للعبيد، فسكت خالد القسري قيلاً يفكر في امر الفتى ثم ادناه منه وقال له:
أعترف على رؤوس الاشهاد انه قد رابني امرك وانا ما اظنك سارقا، ولك قصة غير السرقة، فأخبرني بها.. فقال ايها الامير، لايقع في نفسك سوى مااعترفت به عندك، وليس لي قصة اشرحها لك، الا اني دخلت دار هؤلاء فسرقت منها مالاً، فأدركوني واخذوه مني وحملوني اليك.
فامر خالد بحبسه وامر مناديا ينادي في البصرة: ألا من احب ان ينظر الى عقوبة فلان اللص وقطع يده فليحضر في الغد امام قصر الوالي.. فلما استقر الفتى في الحبس ووضع في يده ورجليه الحديد تنفس الصعداء ثم انشأ يقول:
هددني خالد بقطع يدي إن لم ابح عنده بقصتها
فقلت: هيهات أن ابوح بما تضمن القلب من محبتها
قطع يدي بالذي اعترفت به أهون للقلب من فضيحتها
فسمعه السجانون فأتوا خالداً واخبروه بذلك، فلما جن الليل امر باحضاره عنده فلما حضر استنطقه فرآه اديبا عاقلاً لبيباً ظريفاً فأعجب به، فأمر بطعام فأكلا معا وتحادثا ساعة، ثم قال له خالد علمت ان لك قصة غير السرقة، فاذا كان الغد وحضر الناس والقضاة وسألتك عن السرقة فأنكرها واذكر فيها شبهات تدرأ عنك قطع اليد فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادرؤا الحدود بالشبهات، ثم رده الى السجن.
وفي الصباح لم يبق في البصرة رجل ولا امرأة الا حضر ليرى العقوبة في قطع اليد.. وحضر خالد ومعه وجوه اهل البصرة ثم دعا القضاة، وامر بإحضار الفتى فأقبل يرسف في قيوده وبكت النساء عليه، ثم قال له خالد: هؤلاء القوم يزعمون انك دخلت دارهم وسرقت مالهم فما تقول؟
فقال الفتى صدقوا ايها الأمير دخلت دارهم وسرقت مالهم.
فقال خالد لعلك سرقت دون النصاب؟
قال بل سرقت نصابا كاملا، قال خالد لعلك شريك القوم في شيء منه؟ قال بل هو جميعه لهم ولا حق لي فيه.. فغضب خالد وقام بنفسه وضربه على وجهه بالسوط وقال متمثلا:
يريد المرءُ ان يعطي مُناه ويأبى اللهُ إلاّ ما أرادوا
ثم دعا الجلاد لقطع يده فحضر واخرج السكين ومدّ الفتى يده ووضع عليها السكين الجلاد لقطعها، فبرزت من بين النساء فتاة جميلة فصرخت ورمت بنفسها عليه.. ثم اسفرت عن وجه كأنه البدر في ليلة تمامه..
وارتفعت ضجة الناس، ثم نادت بأعلى صوتها: ناشدتك أيها الأمير.. لا تعجل بالقطع حتى تقرأ هذه الرقعة، ففضها خالد فإذا هي مكتوب فيها:
أَخالدُ هذا مُستهامُ مُتيَّمُ رَمَته لِحاظي من قِسيِّ الحَمَالقِ
فَأصماه سهمُ اللحظِ مني فَقَلْبُه حليفُ الهوى مِن دائِه غيرُ فائقِ
أقَرَّ بما لم يَقْتَرفِه لأَنَّه رأى ذاكَ خيراً مِن هَتِيَّكَةِ عاشق
فمهلاً على الصَّبِّ الكَئيبِ لأنه كريمُ السّجايا في الهوى غيرُ سارقِ
فلما قرأ خالد القسري الأبيات تنحى عن الناس وأحضر الفتاة وسألها عن القصة فأخبرته بأن الفتى عاشق لها وهي له كذلك.. وأراد زيارتها وأن يعلمها بمكانه فرمى بحجر إلى الدار فسمع أبوها وإخوتها صوت الحجر فصعدوا إليه فلما أحسّ بهم جمع لمة من الثياب، فأخذوه وأتوا به إليك على أنه سارق فاعترف بالسرقة وأصرّ على ذلك حتى لا يفضحني بين اخوتي وأبي وهان عليه قطع يده لكي يستر عليَّ.. فقال خالد القسري: انه خليق بذلك ثم استدعى الفتى وقبل ما بين عينيه وأمر باحضار أبي الفتاة وقال له يا شيخ إنا كنا عزمنا على انفاذ الحكم بقطع يده وعصمني الله من ذلك، وقد أمرت له بعشرة آلاف درهم لبذله يده في حفظ عرضك وعرض ابنتك وقد أمرت لابنتك بعشرة آلاف درهم وأنا اسألك ان تأذن لي في تزويجها منه، فأذن له وتزوج الفتى بالفتاة..