في هجعة اللّيل المخيف الشاتي | و اجوذ يحلم بالصباح الآتي |
و الريح كالمحموم تهذي و الدجى | في الأفق أشباح من الإنصات |
و الشهب أحلام معلّقة على | أهداب تمثال من الظلمات |
و الطيف يخبط في السكينة مثلما | تتخبّط الأوهام في الشبهات |
والظلمة الخرسا تلعثم بالرؤى | كتلعثم المخنوق بالكلمات |
*** |
في ذلك اللّيل المخيف مضى فتى | قلق الثياب مروّع الخطوات |
يمشي و ينظر خلفه و أمامه | نظر الجبان إلى المغير العاتي |
و يرى الحتوف إذا تلفّت أو رنا | و يحسّ أصداء بلا أصوات |
و يعود بسأل نفسه ما خيفتي ؟ | ماذا أحسّ ؟ و أين أين ثباتي ؟ |
ماذا يخوّفني أنا رجل السرى ؟ | و أنا رفيق اللّيل و الفلوات |
هل ليلتي غير اللّيالي ؟ أم أنا | غيري … أكاد الآن أنكر ذاتي |
أين الصباح و أين منّي قريتي ؟ | و الرعب قدّماي و في لفتاتي |
*** |
و هنا تراءت للمروّع عصبة | كالذعر شيطانيّة اللّمحات |
شعث كأهل إلاّ أنّ في | نظراتهم همجيّة الشهوات |
و تقلّبت مقل العصابة في الفتى | و كأنّها تشويه بالنظرات |
و تخيّلت " كيس النقود " فأبرقت | رغباتها في الأعين الشرهات |
و تململت فيها الشراسة مثلما | يتململ الزلزال في الهضاب |
و التاع فيها الشرّ فاهالت على | ذاك الفتى بالضرب و الطّعنات |
فاستلّ خنجره و كسّر وحده | و حشيّة الوثبات بالوثبات |
و تلفّتت تلك العصابة حولها | فرأت بعين الوهم ظلّ سراه |
*** |
و هناك لاذت بالفرار و أدبرت | ملعونه الروحات و الغدوات |
و عدت يصادم بعضها بعضا كما | تتصادم الآلات بالآلات |
و جثا الفتى بين الجراح كمدنف | يستنجد العوّاد بالزفرات |
و تلكأت عند التوجّع روحه | بين الممات و بين نصف حياة |
وامتدّ في حضن الطريق وداؤه | حيّ وصفرته من الأموات |
و تداعت الأوجاع فيه و التظت | فيه الجراح الحمر كالجمرات |
و إذا تهيّأ للنهوض تثاءبت | فيه الجراح تثاؤب الحيّات |
و على يمين الدرب كوخ تلتقي | في صدره النكبات بالنكبات |
بين القصور و بينه ميل و ما | أدنى المكان و أبعد الرحمات ! |
يشكو إلى جيرانه فيصمّهم | عنه ضجيج القصف و اللّذّات |
كوخ إذا خطرت به ريح الدجى | أومى إلى السكان بالرعشات |
" سنوات يوسف " عمره وجداره | أبدا تنوء بأعجف السنوات |
فيه العجوز و بنتها و غلامها | يتذكّرون موارد الأقوات |
فالحقل جدب ظاميء و سماؤه | صحو تلوح كصفحة المرآة |
و الأغنياء ، و هل ترقّ قلوبهم ؟ | لا ، إنّها أقسى من الصخرات |
و تغلغلوا في الصمت فانتبهوا على | شبح ينادي الصمت بالأنّات |
فإذا فتى قلق الملامح يختفي | تحت الجراح الحمر و الخفقات |
فمشى ثلاثتهم إليه وانثنوا | بالضّيف بين الدمع و الآهات |
وروى لهم خبر العصابة أنّها | سدّت عليه الدرب بالهجمات |
و تهيّجت فيه الجراح فصدّها | و تستّرت باللّيل كالحشرات |
فدنت فتاة الكوخ تمسح وجهه | و تبلسم الأجراح بالدعوات |
و تبلّ من دمه يديها إنّها | تشمّ فيه أعبق النفحات |
و ترى به ما ليس تدري هل ترة | سرّ القضا ؟ أم آية الآيات |
فإذا الجراح تنام فيه و يشتفي | و يردّ عمرا كان وشك فوات |
وإزاءه ابنت الجميلة كلّها | روح سماويّ و طهر صلاة |
يتجاوب الإغراء في كلماتها | كتجاوب الأوتار بالنغمات |
أغفى الجريح على السكون و أغمضت | أجفان من حوليه كفّ سبات |
و الكوخ في حرق الأسى مترقّب | بشرى ترفّ عليه كالزهرات |
*** |
و اللّيل تمثال سجين يرتجي | فكّ القيود على يد النحّات |
فبدا احمرار في الظلام كأنّه | لعنات حقد في وجوه طغاة |
و تسلّل السحر البليل على الربى | كالحلم بين الصحو و الغفوات |
يندى و ينثر في البقاع أريجه | و يرشّ درب الفجر بالنّسمات |
وصيت على الجبل الشموخ أشعّة | مسحورة كطفولة القبلات |
فكأنّما الجبل المعمّم بالسنى | ملك يهزّ الفجر كالرايات |
رفع الجبين إلى العلا فتقبّلت | في رأسه الأضواء كالموجات |
و تسلّق الأفق البعيد شموخه | فترى عمامته من الهالات |
و تلألأت فوق السفوح مباسم | ورديّة الأنفاس و البسمات |
وانصبّ تيّار الشروق كأنّه | شعل النبوّة في أكفّ هداه |
و غزا الدروب فأجفلت قطّاعها | ووجوههم تحمرّ بالصفعات |
و تصايحت تلك العصابة ما أرى ؟ | هذي الجهات المشرقات عداتي |
أين المفرّ ؟ و أين أطلب مهربا ؟ | و النور يسطع من جميع جهاتي |
كيف القرار ؟ و ليس لي كهف و لا | درب فيا لي ! ! يا لسوء مماتي ! |
و أفاق أهل الكوخ حين ثقوبه | تومي إلى الأبصار بالومضات |
فدنا ثلاثتهم يرون جريحهم | فإذا الفتى في سكرة الفرحات |
نفض النعاس وشدّ فيه جراحه | و استقبل الدنيا بعزم أباه |
ورمى إلى كفّ الغلام و أمّه | بعض النقود و دعوة البركات |
و صبا إلى كفّ الفتاة و قال : يا | " نجوى " خذي نخب الزفاف و هاتي |
و طوى الجراح وهبّ يقتاد السنى | و يبشر الأكواخ بالخيرات |
و يقود تاريخا و ينبت خطوة | فجرا ينير مسالك القادات |
*** |
فضح الصباح المجرمين فأصبحوا | أخبار جرم في فم اللّعنات |
و تعالت الأكواخ تنظر أهلها | يضعون " غار النصر " في الهامات " |
لمس الربيع قلوبهم و حقولهم | فاخضوضرت بالبشر و الثمرات |
و الجوّ يلقي النور في الدنيا : كما | تلقي السيول مناكب الربوات |
و الزهر في وهن الشباب مفتّح | فوق الغصون كأعين الفتيات |
و الأفق يورق بالأشعّة و الندى | و الأرض تمرح في حليّ نبات |
*** |
و هنا انتهى دور الجرائم و ابتدى | دور وريف الظلّ كالجنّات |
فتجمّع الإخوان بعد تفرّق | وانضمّ شمل الأهل بعد شتات |
صرعت أباطيل الدجنّة يقظة | أقوى من الإرهاب و القوّات |
و الدجل يذهب كالجفاء و لم تدم | إلاّ الحقيقة فوق كلّ عتاة |
*** |
إنّ الحياة مآتم تفضي إلى | عرس و أفراح إلى حسرات |
لكنّها بخريفها و شتائها | و بصيفها .. حكم ودرس عظات |
فاختر لسير العمر أيّة غاية | إنّ الحقيقة غاية الغايات |